روسيا وأفريقيا- شراكة استراتيجية في عالم متغير

أدّى التدهور المتزايد في المشهد الدولي، والصدام المحتدم بين القوى الغربية وروسيا، لاسيما في أعقاب الصراع الأوكراني، إلى تعزيز مكانة دول منطقة الشرق الأدنى والأوسط وشمال أفريقيا في صلب اهتمامات السياسة الخارجية الروسية، بالإضافة إلى الأهمية المتنامية في المجالات المالية والتجارية والعسكرية.
لقد بات جليًا أن المساعي الحالية التي تبذلها موسكو لكي تتبوأ مركزًا مرموقًا في القارة الأفريقية، تستمد قوتها الدافعة من النجاح الذي حققته سياستها في منطقة الشرق الأوسط. فلقد استطاعت روسيا أن تنسج شبكة من العلاقات المتينة والشراكات المتوازنة مع أغلب مراكز القوى الإقليمية، واكتسبت بجدارة الحق في أن تشارك بفعالية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا الإقليمية الجوهرية.
وعلاوة على ذلك، فإن النجاح الذي حققته روسيا في سوريا، وتعزيز أواصر الشراكة مع جمهورية مصر العربية، وتوسيع نطاق مشاركتها في الشؤون الليبية، قد فتح الأبواب على مصراعيها أمام تحقيق اختراق أقوى وأكثر تأثيرًا في القارة السمراء.
وجدير بالذكر في هذا المقام أن الظروف الخارجية التي ستواجهها روسيا في الأجلين المتوسط والطويل تعتمد بصورة كبيرة على الموقف الذي ستتخذه دول المنطقة حيال قضايا تسعير الطاقة. وإضافة إلى المحاولات الحثيثة التي يبذلها حلف شمال الأطلسي "لجرّ" دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى تبني موقفه المعادي لروسيا، كانت هذه العوامل بمثابة الدوافع الرئيسية للتحرك الروسي لمواجهة هذا التحدي المصيري والبحث عن موطئ قدم راسخ في هذه المنطقة الإستراتيجية الحيوية.
بالإضافة إلى ذلك، تشير التقديرات إلى أنه في غضون الخمسة عشر إلى العشرين عامًا القادمة، ستكون أفريقيا هي القارة التي ستحدد الملامح الديموغرافية للعالم، وسيكون لها تأثير بالغ الأهمية على حجم الطلب الاستهلاكي العالمي.
وتمتلك روسيا أيضًا مصالح سياسية لا يستهان بها في المنطقة، حيث تشكل الدول الأفريقية ما نسبته 25% من إجمالي الأصوات في الأمم المتحدة، وبالنسبة لموسكو، فإن الحصول على الدعم السياسي من هذا العدد الكبير من الدول يمثل أمرًا بالغ الأهمية والحيوية.
إحياء الدور السوفياتي
تتميز العلاقات التي تربط بين روسيا والقارة الأفريقية بتاريخ عريق وطويل الأمد، وكانت دائمًا علاقات متعددة الجوانب. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، اضطلع المهندسون والخبراء السوفيات بتنفيذ عدد كبير من المشاريع الصناعية الضخمة في مختلف دول القارة، مثل: محطات توليد الطاقة الكهربائية، ومصانع المعادن والتعدين، ومصافي تكرير النفط، وشركات بناء الآلات، وغيرها من المرافق الاقتصادية الوطنية الهامة والحيوية.
وعلى الرغم من أن الأرقام والإحصائيات قد لا تعكس دائمًا الديناميكية المتغيرة للحراك الجيوسياسي الذي عادة ما يكون تدريجيًا، فإنه قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن حجم التبادل التجاري الخارجي لروسيا مع الدول الأفريقية قد بلغ في عام 2022 ما يقارب 18 مليار دولار أمريكي. وشكلت محاصيل الحبوب ما نسبته حوالي 25% من إجمالي الصادرات الروسية إلى أفريقيا، في حين شكلت المنتجات النفطية 22% أخرى. ولكن لا تقل أهمية عن ذلك "المنتجات السرية"، والتي تشمل على وجه الخصوص الأسلحة والمعدات العسكرية.
وينطوي التوجه الروسي الحماسي والملحوظ نحو القارة الأفريقية على بعد اقتصادي إضافي، خاصة في ظل التراجع الملحوظ في التوجه الغربي تجاه النشاط الاقتصادي في روسيا، وذلك كنتيجة مباشرة للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، الأمر الذي فرض على روسيا البحث عن أسواق جديدة لتصريف منتجاتها. ومن الواضح تمامًا أنه سيكون من المستحيل عمليًا إيجاد حلول جذرية لهذه المشاكل دون الاعتماد على القارة الأفريقية.
البوابة السودانية
وقد جاءت التصريحات الصادرة من جمهورية السودان بشأن الموافقة على بناء محطة لوجستية روسية في ميناء بورتسودان لتعطي دفعة جديدة وقوية للحضور الروسي في المنطقة. وعلى الرغم من أن الحديث يدور حاليًا عن محطة للدعم اللوجيستي، فإنها قد تكون بمثابة مقدمة لتحول روسيا إلى لاعب سياسي وعسكري واقتصادي بارز ومؤثر في المنطقة.
وعلى أية حال، لم يعد خافيًا على أحد أن روسيا قد بدأت تعمل بشكل صريح وعلني على توسيع نفوذها في مختلف الدول الأفريقية في المجال العسكري، وذلك من خلال زيادة مبيعات الأسلحة والمعدات العسكرية، وإبرام الاتفاقيات الأمنية، وتطوير برامج التدريب العسكري الموجهة لدول المنطقة. وتعتبر جمهورية السودان أحد أبرز المرشحين الجدد للاستفادة من هذا التعاون.
ووفقًا لمركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية، فإن النفوذ الروسي يتنامى بشكل ملحوظ في كل من جمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي، والسودان، وزيمبابوي. أما صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، فتؤكد أن تعزيز النفوذ الروسي قد تجلى بأقصى صوره في دول منطقة الساحل الأفريقي: جمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي، والسودان، وبوركينا فاسو، لا سيما فيما يتعلق بالمساعدات العسكرية التي يتم تقديمها لدول المنطقة.
وعلى الصعيد الاقتصادي، يتعاظم كذلك الدور الذي تقوم به الشركات الروسية الكبرى العاملة في أفريقيا، مثل شركات النفط والغاز العملاقة، وعلى رأسها: لوك أويل، وغازبروم، وروسنفت، بالإضافة إلى شركتي روسجيولوجي وروساتوم، والتي باتت تغطي أنشطتها دولًا مثل: الجزائر، وأنغولا، والكونغو، ومصر، وجنوب أفريقيا، ونيجيريا، وليبيا.
حاجة متبادلة
إن منطق الحاجة المتبادلة هو الذي سيشكل الدافع القوي لروسيا والبلدان الأفريقية التي تطمح في إقامة علاقات دولية متوازنة، وذلك من أجل الارتقاء بالعلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى مستوى جديد، مغاير تمامًا للشكل الذي فرضه الاستعمار والهيمنة الغربية على مساحات واسعة من القارة السمراء.
فعلى سبيل المثال، في الأمد المتوسط، لن يتمكن المنتجون الأفارقة من تلبية الطلب القاري المتزايد على السلع الأساسية، هذا فضلًا عن احتياجات الطبقة المتوسطة الناشئة من المنتجات عالية الجودة. كما أن الاستخدام الواسع النطاق للأراضي، والمشاكل البيئية، ومحدودية الوصول إلى التكنولوجيات الزراعية الحديثة، تخلق أيضًا فرصة سانحة لتوريد المنتجات الزراعية التي تستطيع روسيا تأمينها بما تملكه من إمكانات هائلة في هذا المجال.
وفي الأجلين المتوسط والطويل، ستكون الأسواق الأفريقية بمثابة أسواق واعدة للصادرات الروسية، لا سيما مشاريع البنية التحتية (الكهرباء والنقل في المقام الأول)، والمواد الخام الغذائية والزراعية والأسمدة، فضلًا عن قطاعات التعليم والرعاية الصحية ورقمنة القطاع العام. كما ستكون الأسواق الأفريقية ذات أهمية بالغة بالنسبة لمنتجات الطاقة الروسية، مثل: الفحم، والمنتجات النفطية، والغازات الهيدروكربونية.
ومع تعمق عمليات التكامل على مستوى عموم أفريقيا، فإن القدرة الاستيعابية للسوق الأفريقية سوف تنمو بشكل مطرد. وستزداد جاذبيتها بالنسبة للمصدرين الروس بشكل كبير بعد إطلاق منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
وفي موازاة ذلك، لا ينبغي فصل عملية "التقارب" الروسي مع بلدان القارة السمراء عن ردود الأفعال المتوقعة من جانب الغرب الجماعي، الذي لن يقبل بأن تلقي أفريقيا بنفسها في الحضن الروسي، ومن المتوقع أن تواجه هذه العملية عراقيل كبيرة وكثيرة.
وفي هذا السياق، ليس من المستبعد على الإطلاق أن يلجأ الغرب إلى خيار إشعال الحروب الأهلية والإقليمية، فضلًا عن الوقوف وراء الانقلابات العسكرية هنا وهناك. وهذا ما تجسد في ردود الفعل الغربية على الانقلاب الذي وقع في دولة النيجر في شهر يوليو/ تموز من العام 2023، وذلك خلال انعقاد القمة الروسية الأفريقية في مدينة سان بطرسبورغ، الأمر الذي كشف بجلاء عن الدور المحوري الذي ستلعبه أفريقيا في المستقبل في المواجهة الحالية بين روسيا والغرب. هذا الغرب الذي خسر جراء تغير نظام الحكم في النيجر واحدة من أكبر الدول المصدرة لليورانيوم في العالم.
إلا أن مواجهة التحولات الجارية في أفريقيا لن تكون بالمهمة السهلة أو مضمونة النتائج، وذلك بسبب حالة الرفض للهيمنة أحادية القطب التي تتسع رقعتها تدريجيًا في العالم، وباتت دول كثيرة تعلن انضمامها لهذا المسار.
وليس من باب المبالغة إذن أن نؤكد أننا نشهد بالفعل بداية النهاية للعصر الذي كان فيه الغرب، لعقود طويلة، يعتبر نفسه الآمر الناهي في السياسة الدولية، ويمارس الوصاية على الدول الفتية باستخدام القوة والنفوذ والحروب والانقلابات وسياسة العقوبات والضغوط.
إنها بالفعل بداية انهيار المنظومة الغربية، خاصة في بعدها الأخلاقي والقيمي. وأول ما انهار في هذه المنظومة هي القيم والسياسات الدولية الشاذة التي بدأ التحدي لها يبرز حتى من داخل المجتمعات الغربية نفسها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في مقاربتها للموقف من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وهذا السقوط الأخلاقي المدوي للغرب يجعل من الصعب عليه استعادة المواقع والنفوذ التي يخسرها تدريجيًا على الساحة الدولية، بما في ذلك في القارة الأفريقية.
